الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي تقدّم ومضى.والسلف: من تقدّم من آبائك وذوي قرابتك.وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه.وقيل: إلاَّ بمعنى بَعْدُ، أي بعد ما سلف؛ كما قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأُولى.وقيل: {إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ} أي ولا ما سلف؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} [النساء: 92] يعني ولا خطأ.وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكِحوا ما نكح آباؤكم مِن النساء إنه كان فاحِشة ومقتًا وساء سبيلًا إلاَّ ما قد سلف.وقيل: في الآية إضمار لقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النساء} فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلاَّ ما قد سلف. اهـ..قال ابن الجوزي: قيل: إنها بمعنى الواو فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني.وقيل: إنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز [الذي كان عقده بينهم] إِلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد. اهـ. بتصرف يسير..قال الألوسي: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم، والكلام حينئذٍ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة:والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من ماتت منهن.والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل في سَمّ الخياط} [الأعراف: 40] والمعلق على المحال محال، وقيل: إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل، وما قد سلف ماض فكيف يستثنى منه، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعًا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره، ولا يعد ذلك زنا، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة مثلًا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه، وحكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن، وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، قال البلخي: وهذا خلاف الإجماع، وما علم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه: {إنَّهُ} أي نكاح ما نكح الآباء {كَانَ فاحشة وَمَقْتًا} فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الإخبار بأنه فاحشة مبغوضًا باستحقار جدًا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الإخبار بأنه مقت، وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفًا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كان على ما ذكره علي بن عيسى وغيره، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري وارتضاه جمع من المحققين، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرًا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا وليس بشيء، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقتي، ويقال له أيضًا: مقيت أي مبغوض مستحقر، وكان من هذا النكاح على ما ذكره الطبرسي الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة. اهـ. .قال ابن عاشور: و{ما قد سلف} هو ما سبق نزولَ هذه الآية أي إلاّ نكاحًا قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرَّمًا.ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله: {إلا ما قد سلف} مؤوَّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف.ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية، وهذا لم يقل به إلاّ بعض المفسّرين فيما نقله الفخر، ولم أقف على أثر يُثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية، ولا على تعيين قائل هذا القول، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية.وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواجَ آبائهم: منهم عُمر بن أمية بن عبد شمس، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، ومنهم منظور بن ريان بن سيار، تزوّج امرأة أبيه مُلكية بنت خارجة، ومنهم حصن بن أبي قيس، تزوّج بعد أبي قيس زوجه، ولم يُرْوَ أنّ أحدًا من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه.وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف.وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي.وقيل: هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه: أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه، فيجد السامع ما رخّص له متعذّرًا فيتأكّد النهي كقول النابغة:وقولهم (حتّى يؤوب القارظان) و(حتّى يشيب الغراب) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع.والظاهر أنّ قوله: {إلا ما قد سلف} قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية، وتعذّرَ تداركه الآن، لموت الزوجين، من حيث إنّه يترتّب عليه.ثبوت أنساب، وحقوق مهور ومواريث، وأيضًا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارًا منهم، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى: {إلا ما قد سلف} بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى: {ما نكح}، حَمَلَهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية، لأنّه قال: {إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا} أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات. اهـ. .قال الفخر: الضمير في قوله تعالى: {إنَّهُ} إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: الأول: أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك، لا جرم كان مستقبحا عندهم، فبين الله تعالى أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا، الثاني: أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله، وإنما قال: {كَانَ} لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية.قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابيّ عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوّج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها؛ ويُقال لهذا الرجل: الضّيْزَن.وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوّج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتِيّ.وأصل المقت البغض؛ من مَقَتَه يَمْقُتُه مَقْتًا فهو مَمْقُوتٌ وَمَقِيتٌ.فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مَقِيتٌ؛ فسمي تعالى هذا النكاح مقتًا إذ هو ذا مقتٍ يلحق فاعله.وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلاَّ ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهنّ.وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى؛ قاله ابن زيد.وعليه فيكون الاستثناء متصلًا، ويكون أصلًا في أن الزنى لا يحرِّم على ما يأتي بيانه. والله أعلم. اهـ..قال الفخر: إنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة:أولها: أنه فاحشة، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش، وثانيها: المقت: وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار.وثالثها: قوله: {وَسَاء سَبِيلًا} قال الليث: ساء فعل لازم وفاعله مضمر وسبيلا منصوب تفسيرا لذلك الفاعل، كما قال: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69] واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع وفي العادات، فقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: {وَمَقْتًا} إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله: {وَسَاء سَبِيلًا} إشارة إلى القبح، في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح. والله أعلم. اهـ..قال الألوسي: قال الإمام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي والقبح الشرعي والقبح العادي، وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: {فاحشة} إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: {وَمَقْتًا} إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله عز وجل: {وَسَاء سَبِيلًا} إشارة إلى مرتبة قبحه العادي، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح، وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه: {وَمَقْتًا} إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون المراد {ومقتًا} عند الله تعالى، وأما على تقدير أن يكون المراد {ومقتًا} عند ذوي المروءات فليس بظاهر، ومن هنا قيل: إن قوله جل شأنه: {فاحشة} إشارة إلى القبح الشرعي {وَمَقْتًا} إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة {وَسَاء سَبِيلًا} إلى العرفي، وعندي أن لكل وجهًا، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفى، ومما يدل على فظاعة أمره ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله. اهـ..قال النيسابوري في الآيات السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}.
|